... والكآبة والفصام يعمّان ويستقران يوما بعد يوم، وقودهما الحرب والإحباط والعنف. أما أنواع الفوبيا الاخرى فتتحكم بسلوك الفرد العراقي. من هو المريض يا ترى، ومن هو «العادي»، وما هي العادية؟
6 ملايين مريض... على الاقل
وتشير نتائج أول إحصاء علمي للأمراض النفسية في العراق أجري عام 2006، بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، إلى أن نسبة الأمراض النفسية في العراق تطال 18.6 في المئة من السكان، ما يعني أن عدد العراقيين المصابين بالأمراض النفسية هو 6 ملايين فرد، في حال كان عدد سكّان العراق 32 مليون نسمة.
وتجمع الثقافة الاجتماعية في العراق مختلف الأمراض النفسية تحت توصيف واحد هو «الخْبال» بمعنى الجنون، الأمر الذي يجعل من يعانون اضطرابات نفسية يمتنعون عن مراجعة الأطباء، خوفاً من تلك النظرة السائدة اجتماعياً عن المرض النفسي - العقلي والاضطراب السلوكي، وخشية افتضاح سرّ قد يتطوَّر ليصبح علني.
وعلى الرغم من النظرة الاجتماعية، تقول وزارة الصحة العراقية في بيان رسمي أن عيادات الأمراض النفسية ومستشفياتها تستقبل شهرياً 10 آلاف مريض، مشيرة إلى أن غالبية المرضى مصابون بالقلق. فنتيجة للغزو الأميركي للعراق عام 2003، وما رافقه من أعمال عنف من قبل القوات الأميركية والميليشيات، فضلاً عن اندلاع الحرب الأهلية عامي 2006 و2007، وما سبق هذه من حروب وحصار وبطش بوليسي، مما هو مستبطن في أعماق النفوس، تحول العراق الى مدينة كبيرة يسكنها الاموات أو تألف مشهد الموت.
وترى منظمة أطباء بلا حدود أن عدد العراقيين المتضررين نفسياً جراء الوفيات والإصابات أو فقدان الأحبة ومشاهدة أحداث العنف يزيد أضعافاً مضاعفة عن عدد الضحايا، بمعنى الذين خسروا حياتهم. وفي عام 2006 وجد باحثو «أطباء بلا حدود»، الذين قيَّموا وضع الأطفال والمراهقين في محافظات بغداد والموصل ودهوك، أن نسبة تتراوح من 14 في المئة إلى 36 في المئة منهم أظهرت أعراض «اضطراب الإجهاد اللاحق للصدمة». وتلقى أقل من 10 في المئة في الموصل من هؤلاء - وهي المحافظة التي عانت اضطرابات أمنية حادّة - علاجاً ورعاية.
ويكشف تقرير «صحة الأسرة في العراق» الصادر عن وزارة الصحة العراقية ومنظمة الصحة العالمية في عامي 2006 و2007 عن مستويات مرتفعة جداً من الضائقة النفسية لدى السكان، حيث وجد أنه من المرجح أن تعاني واحدة من بين كل خمس نساء، وواحد من بين كل سبعة رجال من اضطراب نفسي في حياتهم.
وترتفع هذه النسبة لدى أولئك الذين تعرضوا حتى لحادث صادم واحد. بينما ذكر نحو 70 في المئة من المصابين بأي اضطراب نفسي أن أفكاراً انتحارية راودتهم. ولم يذكر سوى أقل من 10 في المئة من هؤلاء أنهم تلقوا الرعاية. ونتيجة للاضطرابات النفسية الحادة، والقلق المستمر لدى المصابين بالأمراض النفسية من الذين كشفوا الستار عن أمراضهم، فضلاً عن ازدياد معدلات الفقر، تدهورت العلاقات الاجتماعية بشكل كبير، حيث بلغت حالات الطلاق من عام 2004 إلى عام 2009 نحو 244 ألف حالة، وقد شهدت السنوات التي أعقبت عام 2009 نسبا مشابهة، بحسب مجلس القضاء الأعلى.
إحباط العراقيين في الصدارة العالمية
وإذا كانت نار الحروب تعتاش على وقود الدم والموت المجاني، فإنها حين تخمد يخلف رمادها عدداً من العاهات الاجتماعية، أخطرها الإحباط، حيث كشف معهد «غالوب» المتخصص بدراسات الرأي العام في حزيران/يونيو عام 2011 أن العراق في موقع الصدارة بين الشعوب الأكثر إحباطاً في العالم، متقدماً بذلك على 148 بلداً. وقال التقرير ان «العراقيين يلازمهم شعور بالسلبية في حياتهم اليومية».
وإذا ما أُحصيت نسبة الحروب والأزمات السياسية التي عاناها العراق خلال العقود الثلاثة الماضية، فإنه من المرجَّح أن أغلب الأجيال العراقية التي تخلَّقت خلال هذه العقود تعاني أزمات نفسية حادّة. وكان عقد التسعينيات - الذي لم تُعدّ أي دراسة حول مخلفاته النفسية - زاخراً بشتّى أنواع الأمراض النفسية، وشاع أن نظام صدام حسين يعمد الى «تجنين» المعارضين له عبر حقنهم بعقارات طبية تؤدي إلى تعطيل عقولهم، فضلاً عن تراجع مستوى الطب النفسي في تلك الفترة بسبب هجرة الأطباء نتيجة الظروف الاقتصادية التي خلفها الحصار الاقتصادي على البلد. كان الإحباط سمة غالبة ترتسم على حياة الناس وخصوصا الشباب منهم، إذ انتشرت أواسط التسعينيات حالات انتحار بالجملة، وكانت الصحف الرسمية تنشر تقارير عن قيام الآباء ببيع أثاث البيوت ليشتروا بأثمانها «دجاجة مشوية» وكمية من السموم كافية لموت جميع أفراد العائلة من أجل التخلص من أعباء الحياة التي أصبحت جحيماً لا يطاق.
الداء.. بلا دواء
وعلى الرغم من صدور قانون الصحة النفسية العراقي في عام 2005، والذي يهدف إلى تأمين رعاية مناسبة للمُصابين باضطرابات نفسية، إلا انه ما زال حبراً على ورق، ولم يدخل حيّز التطبيق إلا من باب ضيّق، حيث يعيق الخدمة النفسية في العراق الافتقار إلى الموارد البشرية والمالية. فليس في البلد سوى ثلاثة مستشفيات لعلاج الأمراض النفسية وهي «الرشاد» و«ابن رشد» في بغداد، و«سوز» في السليمانية شمالي العراق، بالإضافة إلى خدمة الاستشارة النفسية التي أدخلتها منظمة أطباء بلا حدود في مستشفى اليرموك في بغداد ومستشفى آخر في محافظة الفلوجة غربي البلاد. كما أن كمية الكوادر التي من شأنها التخفيف من أزمات الحالات النفسية المستشرية لا تبدو متوافقة مع نسبة المرضى، إذ يعالج هؤلاء المرضى عدد أطباء نفسيين لا يزيد على أربعة لكل مليون مريض، بحسب وزارة الصحة.
وتختم منظمة أطباء بلا حدود تقريرها الصادر هذا العام، والذي يبدو أنه وداع منها للتعاون مع العراق، «بأن العافية النفسية للعراقيين عامل حاسم الأهمية في استعادة العراق لعافيته». لكن هل ثمّة في الأحزاب السياسية التي تتناحر في الفضائيات من أجل المكاسب - من يبحث عن عافية العراق التي ضاعت بين الحروب؟
[يعاد نشره بالإتفاق مع "السفير العربي".]